أدب الاختلاف في الفروع الفقهية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين وإمام المتقين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد : فهذه بضع صفحات ذكرت فيها بعض آداب الاختلاف في المسائل الفقهية، وقد قدمت لذلك ببيان الفرق بين الخلاف والاختلاف، وبيان حكم الاختلاف في الفروع الفقهية.
وأسأل الله تعالى أن ينفعني بذلك وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم.
أولا: الاختلاف والخلاف
هناك فرق في أصل اللغة بين الاختلاف والخلاف، فالاختلاف في أصل اللغة لا يحمل معنى المنازعة والمشاقة فهو كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: "أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله"، أي هو يدل على المغايرة دون الدلالة على الضدية، فإذا لم يحتمل واقع الناس هذا الاختلاف وضاقت نفوسهم عن مخالفة غيرهم لهم يصبح هذا الاختلاف سببا إلى المنازعة، وهذا النوع الذي يؤدي إلى المنازعة هو المذموم في القرآن الكريم.
أما الخلاف ففيه معنى المغايرة وفيه معنى الضدية كما قال الراغب الأصفهاني: "الخلاف أعم من الضد، لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين".
وقد أوضح أبو البقاء الكفوي الفرق بينهما من عدة وجوه فقال: "
1- الاختلاف أن يكون الطريق مختلفا والمقصود واحدا، والخلاف أن يكون كلاهما مختلفا،
2- الاختلاف ما يستند إلى دليل، والخلاف ما لا يستند إلى دليل. 3- والاختلاف من آثار الرحمة والخلاف من آثار البدعة".
ثانيا: مجالات_الاختلاف
والاختلاف المراد هنا :
الأول: الاختلاف في الأديان :
كالاختلاف بين الإسلام واليهودية والنصرانية.
الثاني: الاختلاف في أمور العقائد ما لم يجعله اختلافه داخلا تحت القسم الأول، كالاختلاف بين أهل السنة وغيرهم كالقدرية والجبرية والخوارج.
الثالث : الاختلاف في الفروع الفقهية، كمذاهب أهل السنة الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
والمجال الثالث هو المراد في هذا البحث،
فلن نتكلم هنا عن الخلاف في الأديان ولا في العقائد، وإنما حديثنا عن الاختلاف بين مذاهب أهل السنة الفقهية.
ثالثا: حكم الاختلاف في الفروع الفقهية:
الاختلاف في الفروع الفقهية جائز والأدلة عليه كثيرة منها:
1- الاختلاف هو سنة الله في خلقه: فقد خلق الله الناس مختلفين في العقول والطبائع والرغائب، وهذا الاختلاف يؤدي حتما إلى الاختلاف في الآراء. ولو شاء الله أن يرفع الخلاف لخلق الناس على عقلية واحدة وطباع ورغائب واحدة.
2- الاختلاف بين الخلق مراد لله لحكم كثيرة بيّن الله لنا بعضها في القرآن الكريم، ولو شاء الله رفع الخلاف لرفعه.
3- الاختلاف في الفروع مراد لله شرعا، والدليل عليه أن الله تعالى لو أراد رفع الخلاف بين الفقهاء في استنباط الأحكام لأنزل القرآن الكريم بحيث لا تحتمل معانيه إلا معنى واحدا، ولكننا نجد أن هناك آيات كثيرة تحتمل ألفاظها معاني مختلفة.
فكلمة (قرء) قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) تحتمل معنيين على حد سواء: الأول الطهر والثاني الحيض، والله سبحانه وتعالى الذي أنزل القرآن يعلم أن اللغة العربية تحتمل في هذا اللفظ هذين المعنيين، ويعلم أيضا أن الفقهاء سيختلفون في المراد منه، ومع ذلك جاءت هذه الآية بهذا الشكل المحتمل.
والتركيب (الذي بيده عقدة النكاح) في قوله :
يحتمل أن يكون المراد منه الزوج ويحتمل أن يكون المراد به ولي أمر الزوجة فكلاهما بيده عقدة النكاح.
وهناك أمثلة كثيرة في القرآن الكريم تحتمل الألفاظ والتراكيب فيها معاني متعددة، ولو شاء الله لجاء لأنزل القرآن لا تحتمل ألفاظه وتراكيبه إلا معنى واحدا.
5- اجمع الصحابة رضي الله عنهم أن الاختلاف في الفروع جائز، والدليل عليه أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة فلم يعنف بعضهم بعضا، ولم ينكر بعضهم على بعض، ولو فتحنا أي كتاب فقه يذكر خلاف العلماء في المسائل الفقهية لوجدنا أمثلة تفوق الحصر على اختلاف الصحابة، ففي مسألة المراد بالقرء في قوله تعالى (ثلاثة قروء) قال بعض الصحابة أن المراد (الحيض) منهم أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وابن مسعود رضي الله عنهم. بينما قال آخرون المراد (الطهر) منهم: ابن عمر وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. وهكذا في الكثير جدا من المسائل الخلافية.
🌺 رابعا: آدب الاختلاف في الفروع الفقهية:
للاختلاف في الفروع الفقهية آداب جليلة ينبغي على الفقهاء ومتبعيهم أن يأخذوا بها حتى لا يتحول الاختلاف المشروع إلى خلاف وتنازع مذموم.
1- يجب أن ينظر إلى اختلاف الأمة في الفروع الفقهية على أنه رحمة بالأمة،
وذلك لأنه يؤدي إلى السعة، فيؤخذ أهل كل بلد ما يناسب بلدهم ويوافقه، ويأخذ أهل كل زمان ما يوافق زمانهم.
وهذا المعنى (اختلاف الأمة رحمة) جاء عن التابعين، يقول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
"لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا،
لأنه لو كانوا قولا واحدا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة".
حتى أن بعض التابعين كان لا يحب أن يسمي ذلك اختلافا بل هو سعة فقد كان التابعي طلحة بن مصرف إذا ذكر عنده الاختلاف يقول: لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا السعة".
وذلك لأنه يؤدي إلى السعة، فيؤخذ أهل كل بلد ما يناسب بلدهم ويوافقه، ويأخذ أهل كل زمان ما يوافق زمانهم.
وهذا المعنى (اختلاف الأمة رحمة) جاء عن التابعين، يقول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
"لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا،
لأنه لو كانوا قولا واحدا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة".
حتى أن بعض التابعين كان لا يحب أن يسمي ذلك اختلافا بل هو سعة فقد كان التابعي طلحة بن مصرف إذا ذكر عنده الاختلاف يقول: لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا السعة".
2- شاع بين الفقهاء قاعدة جليلة تحكم مبدأ الاختلاف بين الفقهاء وهو قولهم:
(مذهبي صواب ويحتمل الخطأ ومذهب غيري خطأ ويحتمل الصواب).
جاء في شرح مجلة الأحكام:
" إذا حكم القاضي بأحد المذاهب الثلاثة مخالفا مذهبه، مثلا بأن يحكم القاضي الحنفي بالمذهب الشافعي
أو القاضي الشافعي بالمذهب الحنفي فهذا الحكم نافذ عند الإمام الأعظم وعليه الفتوى سواء كان الحكم سهوا أو نسيانا أو عمدا،
ووجه النفاذ أنه ليس بخطأ بيقين لأن رأيه يحتمل الصواب وإن كان الظاهر عنده الخطأ
فليس واحد منهما خطأ بيقين فكان حاصله قضاء في مُجتَهد فيه فينفذُ.
(مذهبي صواب ويحتمل الخطأ ومذهب غيري خطأ ويحتمل الصواب).
جاء في شرح مجلة الأحكام:
" إذا حكم القاضي بأحد المذاهب الثلاثة مخالفا مذهبه، مثلا بأن يحكم القاضي الحنفي بالمذهب الشافعي
أو القاضي الشافعي بالمذهب الحنفي فهذا الحكم نافذ عند الإمام الأعظم وعليه الفتوى سواء كان الحكم سهوا أو نسيانا أو عمدا،
ووجه النفاذ أنه ليس بخطأ بيقين لأن رأيه يحتمل الصواب وإن كان الظاهر عنده الخطأ
فليس واحد منهما خطأ بيقين فكان حاصله قضاء في مُجتَهد فيه فينفذُ.
وقال الإمام الأعظم أبو حنيفة رحمه الله تعالى:
"قولنا هذا رأي، وهو أحسنُ ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا، فهو أولى بالصواب منا"
"قولنا هذا رأي، وهو أحسنُ ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا، فهو أولى بالصواب منا"
3- لا يجوز حمل الناس جميعا على مذهب واحد في العبادات وغيرها،
وقد حاول الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على كتاب الموطأ للإمام مالك
ولكن الإمام مالك رفض ذلك وقال للخليفة:
" يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات
وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم،
وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كل أهل بلد منهم لأنفسهم".
وقد حاول الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على كتاب الموطأ للإمام مالك
ولكن الإمام مالك رفض ذلك وقال للخليفة:
" يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات
وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم،
وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كل أهل بلد منهم لأنفسهم".
وقال الإمام الأعظم أبو حنيفة رحمه الله تعالى:
"هذا الذي نحن فيه رأي لا نجبر أحدا عليه، ولا نقول: يجب على أحد قبوله بكراهية، من كان عنده شيء أحسن من فليأت به"
"هذا الذي نحن فيه رأي لا نجبر أحدا عليه، ولا نقول: يجب على أحد قبوله بكراهية، من كان عنده شيء أحسن من فليأت به"
4- من القواعد المتفق عليها في باب الأمر والمعروف والنهي عن المنكر
أنه لا يجوز الإنكار إلا في المسائل المتفق عليها بين العلماء أنها منكرة.
أما المسائل التي اختلف العلماء فيها فلا يجوز الإنكار على من أخذ بغير القول السائد أو المعروف.
أنه لا يجوز الإنكار إلا في المسائل المتفق عليها بين العلماء أنها منكرة.
أما المسائل التي اختلف العلماء فيها فلا يجوز الإنكار على من أخذ بغير القول السائد أو المعروف.
5- من المسائل التي اتفق عليها معظم المتأخرين من العلماء أن المرء ينبغي عليه أن يتبع مذهبا معينا في عباداته ومعاملاته، ولكن يحق له أيضا أن يقلد في بعض المسائل التي يقع فيها بالحرج بناء على مذهبه الذي يتبعه ما دام يقلد مذهبا من مذاهب المسلمين المعتمدة ما لم يقصد تتبع الرخص. فمن وقع في الحرج بالنسبة لنقض الوضوء بلمس المرأة وهو شافعي يحق له أن يقلد مذهب الحنفية الذي يقول بعدم نقض الوضوء بذلك. والحنفي الذي يقع في الحرج بالنسبة لخروج الدم وهو ناقض للوضوء في مذهبه يحق له أن يقلد الشافعي في ذلك. وقد وقعت مسألة مع الإمام إبي يوسف فقلد فيها أهل المدينة، فقد استخلفه الخليفة مرة في صلاة الجمعة فصلى بالناس ثم ذكر أنه كان محدثا، فأعاد هو الظهر ولم يأمر الناس بالإعادة مع أن مذهب الحنفية وجوب الإعادة على الإمام والمأمومين، فسئل عن ذلك فقال: ربما ضاق علينا الشيء فأخذنا بقول إخواننا المدنيين". والشافعي مرة خالف مذهبه فسئل في ذلك فقال: حيث ابتلينا نأخذ بمذهب أهل العراق".
6- أيضا نص العلماء على استحباب مراعاة خلاف المذاهب في العمل وقد عقد صاحب الدر المختار من الحنفية مطلبا فِي نَدْبِ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَرْتَكِبْ مَكْرُوهَا في مَذْهَبِهِ وذكر في حاشية ابن عابدين مسائل كثيرة تستحب مراعاة لخلاف باقي المذاهب، وكذلك نص الشافعية على استحباب مسائل كثيرة مراعاة لخلاف باقي المذاهب.
7- في مسألة الفتوى اتفق العلماء على أن العامي لا مذهب له، ومذهبه في ذلك مذهب مفتيه، فيحق للعامي أن يستفتي أي عالم من العلماء المعتبرين أيا كان مذهبه، وعليه أن يعمل بمضمون هذه الفتوى.
8- مما شاع في كلام المتأخرين: أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. فإذا اختلف العلماء فيما بينهم في مسألة من المسائل الفقهية فيجب عليهم أن لا يؤدي هذا الاختلاف إلى النزاع والحقد والضغينة. وقد ضرب العلماء الأوائل أعظم الأمثلة في ذلك، فهذا الإمام الشافعي يقول عنه تلميذه يونس بن عبد الأعلى الصدفي: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة..
9- من الأدب في مسائل الخلاف استحباب مراعاة الخلاف في البلاد التي ينكر فيها على المخالف وخاصة في السنن والآداب، فمن كان يجهر في البسملة في الصلاة إذا صلى في مكان ينكر الناس فيه فيستحب له ترك الجهر بالبسملة. يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر هذه المسألة: "ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل هذا. كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لِما في إبقائه من تأليف القلوب".